النص :

[ و إذا تقرر أنه يجب بالشرع، النظر في القياس العقلي و أنواعه، كما يجب النظر في القياس الفقهي، فبين أنه إذا كان لم يتقدم أحد ممن قبلنا بفحص عن القياس العقلي و لأنواعه، أنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه، و أن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم حتى تكمل المعرفة به. فإنه عسير أو غير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقائه و ابتداء، على جميع ما يحتاج إليه من ذلك، كما أنه عسير أن يستنبط واحد جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي، بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك، و إن كان غيرنا قد فحص عن ذلك.

فبين أنه علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله، بما قاله من تقدمنا في ذلك: و سواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة، فإن الآلة التي تصح بها التذكية، ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة، و أعني بغير المشارك، من نظر في هذه الأشياء من القدماء، قبل ملة الإسلام.

و إذا كان الأمر هكذا، و كان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية، قد فحص عنه القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فالنظر فيما قالوه من ذلك؛ فإن كان كله صوابا قبلناه منهم، و إن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه ].

تحليل النص :

طرح المشكلة:

بعدما أكد ابن رشد في نصه السابق ( اضغط هنا للذهاب الى النص السابق ) أن النظر العقلي أو القياس العقلي هو واجب شرعا أو أنه لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، بقيت له في النص الذي بين أيدينا معرفة استعمال هذا القياس العقلي، خاصة إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكون ملما به كاملا أو لا يمكن للإنسان أن يلبي جميع حاجياته في النظر العقل و أنه لابد من الاستعانة بغيره ممن سبقه، من هذا المنطلق يتساءل ابن رشد على ما يمكن الاستعانة بما وصل إليه القدماء في مجال القياس العقلي إذا كان هؤلاء غير مسلمين؟ أو هل يجوز الاعتماد على ما وصل إليه الإغريق و بالخصوص “أرسطو” في مجال المنطق إذا علمنا أن هؤلاء لا يدينون بديننا الإسلامي؟

موقف الكاتب:

يرى ابن رشد أنه لا يوجد حرج في الاستعانة بالأقدمين في معرفة القياس و أنواعه، فإذا عالج الإنسان أي موضوع ما لم يسبق أن عالجه غيره ستكون معالجته هذه تمهيد لمن سيأتي بعده لاستكمال المعرفة، لكن إذا كان هناك من سبقنا في استعمال القياس العقلي، فلابد أن نستعين بما وصل إليه، هنا أهل ملة من سبقنا، فالقياس هو آلة التفكير و لا يهم من صنع الآلة و إنما ما يهم هو صحتها و سلامتها و بالتالي ما دامت الآلة هي وسيلة و ليست غاية في ذاتها فلابد أن يكون استعمال القياس العقلي وسيلة و ليس غاية في حد ذاته.

و قد استهل الكاتب نصه بمقدمة مفادها أن موضوع النظر إليه إذا لم يكن عند الأقدمين و هنا الكاتب يريد أن يشير بأنه ليس بالضرورة كل جديد هو بدعة و إذا نحن بدأناه بما لم يسبقنا به  أحد فلابد أنه من يأتي بعدنا سوف يكمل الفحص الذي بدأناه و يطوره، و هذا بغية اكتمال المعرفة فمستحيل حسب ابن رشد أن يصل أي شخص إلى الكمال في معرفة كل ما يريد معرفته، من ذلك لا يمكن أن تكتمل معرفة القياس الفقهي عند شخص واحد فكيف يمكن أن تكتمل معرفة القياس العقلي؟ فإذا كان الفقيه يستعين بغيره من العلماء و الفقهاء في مجال استنباط الأحكام الشرعية فلابد للفيلسوف أن يستعين بغيره في مجال معرفة قواعد القياس العقلي أو ما يعرف بقواعد المنطق. 

لكن بعض الفقهاء نبذوا الاستعانة بالأقدمين في مجال المعرفة خاصة بالنسبة للكفار أو غير المسلمين، و هنا يتدخل ابن رشد لكي يبيح ذلك و يشير إلى ضرورة الاستعانة بكتب الأقدمين في مجال معرفة القياس العقلي بغض النظر عن ملة أو دين هؤلاء الأقدمين. و هنا يريد ابن رشد أن يبرر الاستعانة بأرسطو و منطقه في عملية القياس العقلي، فالقياس العقلي حسب ابن رشد هو مجرد آلة و الآلة أثناء استعمالنا لها لا يهمنا من صنعها و إنما يقتضي النظر فيما إذا كانت صالحة للاستعمال أم لا و يعطينا مثالا حسيا على ذلك في استعمال آلة التذكية أي في الذبح الشرعي، فأثناء عملية الذبح  لا يهمنا من صنع آلة الذبح الذي يهمنا هو هل هي صالحة لكي يكون لنا ذبح أو تذكية شرعية، أي البحث في هذه الآلة إذا كانت تتوفر على شروط الصحة مثل أن تكون نظيفة وحادة و لا تعذب الحيوان و لا تكون نجسة. و بناء على ذلك، يرى ابن رشد أنه من الضروري العودة إلى كتب الأقدمين.

حجة الكاتب:

استدل الكاتب في تبرير موقفه على حجج منطقية و واقعية، فمنطقيا أن الإنسان ما دام لا يستطيع أن تكون له معرفة كاملة بالشيء، أنه لابد أن يستعين بغيره، فكذلك ينطبق ذلك على القياس المنطقي الذي يمكن الاستعانة بغيرنا من الأقدمين للاستفادة بما وصلوا، ثم إن القياس العقلي ما دام وسيلة و ليس غاية لا يهم مصدرها و إنما صلاحيتها، و قدم ابن رشد تبريرا واقعيا من خلال المثال المتعلق باستعمال آلة الذبح، ليس من الضروري البحث عمن صنعها بل توفرها على شروط صحة الذبح.

مناقشة الكاتب:

إن النص الذي بين أيدينا هو بمثابة نقد لكل الاعتقادات التي تحرم الفلسفة و تحرم استعمال المنطق أو تحرم قراءة كتب اليونان، خاصة و أنه داع في وقت من الأوقات في القرون الوسطى إلى تكفير كل من يستعين بالمنطق الأرسطي حيث تردد القول ” من تمنطق تزندق”، فيأتي ابن رشد للرد على هؤلاء و ذلك من منطلق ليس كل جديد هو بدعة كذلك ليس كل ما أتى به غيرنا من غير ملتنا هو منبوذ و إنما الحكمة هي ضالة المؤمن و لا يهم من أين نأخذها، فهذا النص يحث على الإطلاع على كتب الأقدمين بل هي واجبة شرعا ما دام النظر العقلي ثبت وجوبه شرعا.

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *