النص الأول:

[ فنقول: إن كان فعل الفلسفة شيئا أكثر من النظر في الموجودات، و اعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات، إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها: و أنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم، و كان الشرع قد ندب على اعتبار الموجودات، حث على ذلك.

فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم، إما واجب بالشرع، و إما مندوب إليه:

فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل و تطلب معرفتها به، فذلك بين في غير ما آية من كتاب الله تبارك و تعالى، مثل قوله تعالى: ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾- و هذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي و الشرعي معا- و مثل قوله تعالى: ﴿ أو لم ينظروا في ملكوت السموات و الأرض و ما خلق الله من شيء ﴾- و هذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات.

و اعلم أن ممن خصه الله تعالى بهذا العلم و شرفه به، “إبراهيم” عليه السلام فقال تعالى: ﴿ و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض﴾ و قال تعالى: ﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف رفعت﴾ و قال تعالى: ” و يتفكرون في خلق السموات و الأرض﴾ ، إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.]

تحليل النص :

طرح المشكلة:

لقد سبق لأبي حامد الغزالي أن استهجن الفلاسفة إلى درجة التكفير في بعض المسائل، وحذر من ممارسة الفلسفة، و هذا ما تضمنه كتابه “المنقذ من الضلال”، هذا الموقف من الغزالي أثار حفيظة ابن رشد، فحاول من خلال كتابه “فصل المقال” الرد على الغزالي، و في النص الذي بين أيدينا يحاول ابن رشد البحث في ضرورة النظر في الفلسفة من قبل الشرع، فهل الشريعة تحث على الفلسفة أم تنبذها؟

محاولة حل المشكلة:

موقف الكاتب: 

يرى ابن رشد من خلال النص الذي بين أيدينا أن فعل الفلسفة إما أن يكون واجبا شرعا أو مندوبا، يقصد بالواجب هنا كل أمر شرعي يفيد الجزم و يعاقب تاركه، أما المندوب فهو كل فعل يثاب عليه و لا يعاقب على تركه، حيث يقول ابن رشد في هذا الشأن في كتابه ” بداية المجتهد ونهاية المقتصد” في تعريف الأوامر الشرعية: ” إما أمر بشيء و إما نهي عنه و إما تخيير فيه. والأمر إن فهم منه الجزم و تعلق العقاب بتركه سمي واجبا، و إن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبا، و النهي أيضا إن فهم منه الجزم و تعلق العقاب بالفعل سمي محرما و محظورا و إن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروها، فتكون أصناف الأحكام الشرعية خمسة: واجب و مندوب و محظور، و مكروه، و مخير فيه و هو المباح”. و من هذا المنطلق تصبح الممارسة الفلسفية إن لم يكن الأمر بها مندوبا فسيكون واجبا.

و في بداية النص الذي بين أيدينا نلاحظ أنه “ابن رشد” عند ذكر الفلسفة ذكر أنها فعل، و هذا يعني كل الأنشطة المقترنة بالتفكير الفلسفي، علما أن الفلسفة حينها كانت تجمع كل العلوم بما في ذلك الرياضيات و الطبيعيات و المنطق و الإلهيات، و أن الجدل الذي وقع حول الفلسفة كان بالخصوص في المسائل المتعلقة بشق الإلهيات في الفلسفة و ليس في الرياضيات أو الطبيعيات أو غيرها، و هذا ما نبذه الغزالي و كفر على أساسه الفلاسفة المشائيين من أمثال “الفارابي” و “ابن سينا” فجاء رد ابن رشد في هذا النص ليبين أن الفلسفة بمختلف أبحاثها لا تتعارض مع الشريعة بل إن الشريعة تفرضها، لكمن هذا من منطلق مسلمة يعتبرها “ابن رشد” صادقة هي كون ماهية الفلسفة هي النظر في الموجودات و اعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، و هذا يعني أن الدراسة و البحث في الظواهر الطبيعية لصفتها من مخلوقات الله عز و جل فإنها تقربنا من معرفة الصانع أو الخالق و هو الله عز و جل و مفهوم النظر أو الاعتبار هنا يفيد استعمال العقل أو آلية القياس المنطقي، و اشترط ابن رشد معرفتنا الصحيحة بالخالق بمعرفتنا الصحيحة بالظواهر التي هي من صنع الخالق و اعتبر أن الشريعة ندبت على اعتبار الموجودات و الحث على ذلك أن هناك أوامر شرعية تفرض البحث في الموجودات و إذا كانت الفلسفة هي البحث في الموجودات تصبح هي واجبة شرعا.

ينتقل بعد ذلك “ابن رشد” لتبرير وجود أمر شرعي على إعمال العقل في النظر أو البحث في الموجودات، فعمد إلى الاستعانة بجملة منم الآيات القرآنية التي تدل على ذلك و من خلال هذه الآيات يصل ابن رشد إلى ضرورة الاعتماد على استعمال القياس و الحديث هنا على القياس هو الاستدلال على المجهول بالمعلوم أو قياس الغائب بالحاضر و هنا قد يكون قياسا عقليا كما هو معروف عند أرسطو و كذا القياس الشرعي كما هو معروف عند الفقهاء.

حجة الكاتب:

أكد الكاتب أن ممارسة الفلسفة واجبة شرعا و أنها لا تتعارض مع الشريعة و أن الشريعة تدعو إلى استعمال العقل في البحث في الموجودات و ذلك من خلال جملة من الأدلة المنطقية و الواقعية أراد الكاتب تعزيز صدق مسلمته، فنلاحظ منطقية حجة الكاتب من خلال إظهار ماهية الفلسفة فوجدها هي النظر في الموجودات و أن الشريعة تدعو إلى النظر في الموجودات. هذا من جهة و جهة أخرى اعتمد الكاتب على حجج واقعية و تجريبية من خلال انتهاج منهج المقارنة بين غاية الفلسفة و غاية الشريعة، كما اعتمد الكاتب على حجج نقلية من خلال الاستناد على الآيات التي تحث على إعمال العقل و النظر في الموجودات.

مناقشة الكاتب:

يظهر من خلال النص الذي بين أيدينا كرد واضح لتصور الغزالي، فإذا كان هذا الأخير يرى أن بين الفلسفة و الشريعة تناقضا و أنها تدفع إلى الكفر فإنها عند ابن رشد واجب شرعيا لأنها تقربنا من الله، و ذلك كلما عرفنا الوجود زادت معرفتنا بالله عز و جل. و يعتبر هذا الموقف لابن رشد كقفزة نوعية اتجاه تلك النظريات و المذاهب الفقهية التي أرادت أن تكبح جماح التفكير الفلسفي، بل لم يرد ابن رشد على الغزالي فقط بل أسس لمذهب عقلاني في الفكر الفلسفي الذي امتد لقرون بعد عصره.

يمكنك الاطلاع على بقية نصوص الانتاج الفلسفي من خلال هذا الرابط https://philobest.co/%d9%85%d9%83%d8%aa%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b5%d9%88%d8%b5/

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *