هل اساس الادراك الحواس ام العقل الخالص ؟

مقالة اساس الادراك جدلية

++ يتميز الانسان بكونه ذاتا عارفة ، تحقق تلك المعرفة من خلال الاتصال بالعالم الخارجي عن طريق الادراك ، وهذا الاخير عملية معقدة اتفق الفلاسفة والمفكرون حول ماهيتها في حين اختلفوا حول اساسها الاول ، فطرف يصر على ان اساسها الحواس ، بينما يعارضهم طرف اخر ويرجع الفضل كله للعقل الخالص .

فاي الرايين اقرب للصواب ؟ وما هو اساس الادراك ؟

++ يرى اصحاب المذهب التجريبي والفلاسفة الحسيون ان الاحساس هو الاساس الاول للادراك ، وعلى راس هؤلاء نذكر جون لوك و ستيوارت ميل .

وقد قدموا عدة حجج وادلة لتدعيم موقفهم هذا ، فالتجربة عندهم اساس كل تصور ، وهي السبيل الاول للتعلم عند الانسان منذ الطفولة ، فيقول احدهم ” يولد الانسان صفحة بيضاء تكتب عليها التجربة ما تشاء ” ، بمعنى ان المعارف التي نمتلكها لم تكن مخزنة في اذهاننا ، ولولا خبرتنا الحسية وتجاربنا لما كان لنا اي مفاهيم ، كما ان المفاهيم الاساسية والاولية كلها مكتسبة من عالم المادة ، فالالوان مثلا والروائح والاشكال لا يفهمها الذهن دون تمثل في الخارج ، ولهذا قيل ” ان من فقد حاسة فقد المعرفة المتعلقة بها ” فالاعمى لا يعرف الالوان و الاصم لايعرف الاصوات ولهذا لا تجد شخصا اصما يستطيع ان يتكلم .

اضافة الى هذا, نجد ان الطفل الصغير اثناء تعلمه يتجه دائما الى تلمس الاشياء والاتصال بها بطريقة مباشرة ، فافضل طريقة لتعليمه هي التجربة الحسية للاشياء وتجسيمها واقعيا ، لان الحواس هي نافذتنا الى العالم الخارجي ، وهذا ليس متعلقا دائما بالطفل فقط ، بل هو متعلق حتى بالراشدين ، فمثلا لو حدثت شخصا ما عن نبتة او اكلة ما او مفهوم رياضي ما وكان لم يعرفه من قبل ، فان افضل طريقة لتوضيح المقصد له هو الرسم او التصوير او وصف الشكل واللون والطعم والرائحة والملمس ، ولهذا كثيرا ما نسمع عبارة “الصورة ابلغ من كل تعبير ” بمعنى ان الصورة الحسية تحقق الفهم اكثر من اي معنى مجرد.

++ هذا الطرح صائب الى حد ما ، وادلته مقبولة ولا غبار عليها ، ولكن عليه ماخذ لا يمكن تجاهلها او التغاضي عنها ، فاذا جعلنا المعرفة مقترنة بالحواس فقد اهملنا دور العقل تماما ، ثم انه لو كانت الحواس هي اصل المعرفة لكان الحيوان اولى بها ، لان حواسه اقوى من حواسنا بكثير ورغم ذلك تجده غير مزود بالية الادراك والفهم .اضافة الى هذا ، معطيات الحواس قد تكون مخادعة في بعض الاحيان ، فالخداع البصري و الحركي ابلغ مثال ، اذ لو وضعنا مسطرة في الماء لبدت لنا منكسرة ، ولو نظرنا الى صورة لمنظر طبيعي لبدت لنا بعض الرسومات بعيدة واخرى قريبة ، رغم انها في الواقع كلها مرسومة على مستوى واحد وفي بعد واحد .

++ من جهة اخرى وعكس ما ذكرناه سابقا ، يرى العقلانيون ان اساس الادراك هو العقل الخالص ، والمعرفة مرتبطة به ارتباطا ضروريا بحيث تحضر بحضوره وتغيب بغيابه ، وعلى راس من ايدوا هذا الطرح نذكر ديكارت والان .

لعل من ابرز الحجج التي قدمها اصحاب هذا التوجه لتبرير موقفهم ، نذكر قدرة الانسان على ادراك البعد الثالث وتقدير المسافات ، فنحن حين نرى مجسما هندسيا من ثلاث اسطح وست اضلاع نحكم عليه مباشرة بانه مكعب ، رغم اننا لا نرى الا جزء منه ، ورغم انه يستحيل ان نراه بشكله وابعاده واسطحه الكاملة دفعة واحدة , وهذا ما يقول عنه احد الفلاسفة ” ان الادراك حكم عقلي ” بمعنى ان اساس الادراك راجع الى العقل, فهو تفسير وتاويل عقلي محض لما في العالم الخارجي.

ويضرب ديكارت مثالا رائعا في هذا الصدد ، مضمونه كالتالي : لو رايت من النافذة معاطف وقبعات تمشي ، فسافهم ان هناك مجموعة اشخاص يرتدون قبعات ومعاطف رغم اني لا ارى ملامحهم ، واحكم ان من وراء ذلك حياة انسانية .

اما المسافات فهي كميات مجردة ، وتقديرها عميلة عقلية خالصة . فانا حين احكم على الشمس بانها بعيدة او على الجبل, فذلك ليس لاني اراه بعيدا ، بل لاني قدرت انه بعيد من خلال تحليل المعطيات التي املكها من شكله وحجمه بالنسبة للاجسام الاخرى في المكان ولونه وما الى ذلك.

اضافة الى ما سبق ذكره ، يصرح اصحاب هذا الطرح ان العقل هو جوهر الفرد ، وهو ما يميز الانسان عن سائر الكائنات , ولهذا نجده الكائن المتفرد بالمعرفة ، وهذا دلالة على اقتران ضروري بين العقل والمعرفة ، بمعنى انه اثبات صريح لكون العقل اساسا للادراك ، ويقول ديكارت ” العقل اعدل قسمة وزعت بين الناس ” ، واحكامه تتميز بالبداهة والوضوح ، فمنهج الشك يثبت ان لا احد يستطيع ان يفند عملية الشك وانها ثابتة وحقيقة مطلقة ، وهي الحقيقة الوحيدة التي يصل اليها الانسان ويكون منها معرفة ، ومادامت عملية عقلية فهذا يثبت بدوره ما ذكر انفا .

++ ماجاء به اصحاب الاتجاه العقلاني سليم ومؤسس الى حد ما ، وادلتهم فيه كانت قوية بما يخول لهم رسم دعائم موقفهم ، ولكن رغم هذا لا ينبغي بتاتا اهمال دور الاحساس في مقابل تقديس دور العقل وجعله منزها عن الخطا ، فحتى العقل يقع في الاخطاء واحكامه متاثرة بعوامل عديدة من بينها العاطفة والحالة النفسية والتركيز وحتى التوجه المنطقي والفكري ، ثم ان العقل الخالص لوحده لن يبني اي معرفة اذا لم يستق مادتها الاولية من الحواس .

++ للعقل دور فعال في عملية الادراك كما للحواس دورها الذي لا يمكن الاستغناء عنه باي حال من الاحوال ، والا لكانت العملية دائما ناقصة ، فالحواس تعطينا مادة المعرفة والعقل يحكم عليها ويصبغها بصبغة الوعي الانساني المتميز الذي يعتبر اعلى ما في الانسان قيمة وتفوقا، و هو ما اكده الفيلسوف النقدي ايمانويل كانط حين قال ” كل معارفنا تبدا من الحواس وتنتهي الى العقل ” .

وليس هذا فقط ، بل ان جمع الطرفين معا غير كاف وسنحتاج الى توفر شروط وعوامل في الموضوع لتسهيل وتقويم عملية ادراكه على النحو الصحيح ، وهذا ما تبنته مدرسة الجشطالت في علم النفس الحديث حين حددت العوامل الموضوعية للادراك والتي لا تفصل فيها بين الحواس والعقل فصلا ذاتيا .

++ اخيرا وعلى ضوء ما ذكرناه انفا ، يمكن القول ان الادراك عملية معقدة تزاوج بين قدرات الحواس وملكات العقل ، وتخضع في كل الاحوال لعوامل خارجة عن ارادة المدرك ومتعلقة بالموضوع المدرك من بروز ووضوح وانتظام .. وحتى لعوامل نفسية من توازن عاطفي وتركيز واهتمام ، والجدل بين الحسيين والعقليين في هته القضية قد تجاوزه الزمن وتجاوزته مناهج البحث الحديثة في علم النفس ولا طائل من التعصب لتيار ضد اخر .

اذ يقول كانط ” الحدوس الحسية بدون مقولات عقلية تبقى عمياء ، والمقولات العقلية بدون حدوس حسية تبقى جوفاء ” . فالعقل لا يبني معرفة من تلقاء ذاته بمقولاته وهي تبقى مجرد اطر فارغة ، كما ان ما تقدمه الحواس سيكون مجرد معطيات مبعثرة غير موجهة ولا منظمة ولن تفيد في شيء اذا لم ينظمها ويفسرها العقل.

مقالة اساس الادراك , مخطط

مقالة اساس الادراك
مقالة اساس الادراك
مقالة اساس الادراك
مقالة اساس الادراك

شاهد مقالة الفصل بين الاحساس و الادراك

اضغط هنا لمشاهدة مقالة الذاكرة

مقالة الشعور و اللاشعور

مقالة الاخلاق بين النسبي و المطلق

الاخلاق بين العقل و المجتمع

مقالة العدالة

مقالة البيولوجيا

مقالة اللغة و الفكر

مقالة الحتمية

مقالة الرياضيات

مقالة النتائج في العلوم التجريبية

مقالة الفرضية

مقالة الحرية

تحليل نص

…………………………………~~~~~~~~~…………………………الاستاذ خروبي بلقاسم .

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *