هل يمكن الفصل بين الإحساس و الإدراك؟

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

الاحساس عملية فيزيولوجية اولية نتواصل بها مع العالم الخارجي، تقوم اساسا على جملة من الحواس (البصر،السمع،الذوق،الشم،اللمس) ، والادراك عملية ذهنية معقدة يفسر بها الانسان معطيات الحاضر ويؤولها، هذا ما اتفق عليه الباحثون والمفكرون، ولكنهم اختلفوا في العلاقة بين الاحساس والادراك ، وقيمة كل منهما، اذ يعتقد البعض انهما الية واحدة متكاملة، بينما يعارضهم اخرون ويرفضون جعلهما من مستوى واحد، وبناء على هذا، طرح اشكال ينبغي الخوض فيه، مضمونه : هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك ؟

يرى كل من الحسيين والعقليين أنه من الضروري التمييز بين الإحساس والإدراك، فالعقليون يرون أن الإحساس مجرد عملية فيزيولوجية لا يمدنا إلا بمعطيات أولية ، في حين أن الإدراك هو عملية تعتمد على الذهن وتدخل فيها الكثير من العمليات النفسية من ذاكرة وذكاء وتخيل، كما أن الإحساس يعتمد على الأعضاء الحسية ولا تنتج معرفة، فهي لا يمكنها ان تقدم معطيات تتضمن معنى، و الإدراك ارقى من ذلك؛ حيث أنه يعتبر عملية معقدة و بها نعقل الأشياء ونفهمها ونكون عنها معرفة بمفهوم فعلي عن طريق التحليل و التركيب ، كما أن وظيفة الإحساس تتوقف عند إثارة العقل ولا تجاوزه، فالاحساس ادنى قيمة ومرتبة عن الادراك، وهما ليسا من طبيعة واحدة، ولهذا وجب التمييز بينهما. ناهيك عن ان الحواس كثيرا ما تقدم معطيات تؤدي إلى نتائج خاطئة وانطباعات مخادعة ومزيفة للواقع . فعندما نشاهد العصا التي نغمسها في الماء نرى بأنها تبدو مكسورة ، وهذا ما تنقله لنا حاسة البصر، إذا فهذه المشاهدة لايمكن الوثوق بها، ولولا وجود العقل الذي يقوم بتصحيح الصورة لقلنا أن العصا قد انكسرت داخل الماء، ويقول مين دوبيران :(الإدراك يزيد على الإحساس بأنه آلة الحس فيه تكون أشد فعلا والنفس أكثر انتباه…….) . اضافة الى ادراك البعد الثالث وتقدير المسافات الذي يعتبر حكما عقليا خالصا ، ويعبر بكل وضوح على استقلال الحكم العقلي عن الاحساس، لهذا يقول ديكارت ” اني ادرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت احسب اني اراه بعيني “من جهة اخرى ، يفصل التجريبيون بين الاحساس والادراك ، ويعطون الاولوية للاحساس على العقل، وبهذا يجعلون الاحساس اكثر قيمة واسبق وجودا، بحيث يسلمون ان كل ادراك هو احساس في الاصل، وانه من فقد حاسة فقد المعرفة المتعلقة بها، فالاعمى مثلا لا يعرف الالوان والاصم لا يعرف الاصوات وهكذا، ولا يمطن باي حال ان يتعرف عليهما بالعقل، ما يعني ان وظيفة الاحساس مستقلة عن وظيفة الادراك . فنجد ان المدرستين اتفقتا على الفصل بين الاحساس والادراك رغم اختلافهما حول اولوية احدهما عن الاخر .

صحيح ماذهب إليه كل من الحسيين و العقليين في تبيان قيمة وطبيعة وقوة وشدة كل من الإحساس والإدراك في مجال المعرفة ، ولكن هذا لا يؤدي إلى ضرورة الفصل بينهما بصورة كلية أو مطلقة، فلو تعمقنا اكثر لوجدنا انه يستحيل ان تقوم للمعرفة قائمة اذا غابت احدى الاليتين، ثم ان هذا الفصل مجرد فصل نظري لا يمكن تاكيده عمليا .

وعلى النقيض من الراي السابق، نجد أنه في حقيقة الأمر لا يمكن الفصل بين الاحساس والادراك عند الجشطالت من امثال فيبر وكوفكا وفيرتهيمر ، لأنه لايمكن تصور وجود أي عملية إدراكية دون المرور على العملية الحسية ولا يمكن للإنسان أن يدرك أو يعقل شيء دون أن تحس به أعضائه الحسية، فالإحساس والإدراك وجهان لظاهرة نفسية واحدة. ومن ادلتهم ان الصيغة أو الشكل الذي يكون عليه الموضوع هو الذي يتحكم في العملية الإدراكية، أي أن المؤثرات الخارجية هي التي تحدد طبيعة إدراكنا وليس ذات المدرك، وأكدوا أهميتها في عملية الإدراك عندما ذهبوا إلى أن الإدراك أكثر من مجرد إحساس بالعناصر الأساسية للمنبهات ، وإنما هو عملية كلية ندرك بها المنبهات كأنماط وأشكال وصيغ ذات معنى ، إذا الإدراك ليس مجرد عملية استقبال للمنبهات عن طريق الأعضاء الحسية وإنما صيغ وشكل موضوعات الإدراك هي التي تبني الإدراك وترسم معناه . ومن بين اهم العوامل التي ركزوا عليها نذكر عامل البروز وعامل الانتظام في الشكل والارضية ، فمثلا لو كتبنا بقلم اسود على سبورة سوداء فلن نتعرف على الموضوع حتى ولو حضر الاحساس والعقل معا، ولذلك تجد الناس يكتبون بقلم بلون مخالف للون الورقة المستعملة، وتجد انك حينما تنظر الى السماء في الليل تجدها مرصعة بالنجوم بينما اذا نظرت اليها في النهار لم تر منها شيئا وذلك لبروزها في الظلام وبروز الشمس اكثر منها في النهار .

لا يمكن انكار ما جاء به اصحاب هذا الطرح في إمكانية الجمع بين الإحساس والإدراك ومدى التقارب بين العمليتين، الا ان ما يعاب على هته النظرية انها أهملت العوامل الذاتية في عملية الادراك، وبجمعها بين الاحساس والادراك ساوت بينهما في الدرجة والمرتبة، رغم ان الواقع يظهر عكس ذلك .

ان الراي المعتدل الجامع، هو الذي يقول بان المعارف الإنسانية ناتجة عن تكامل وتفاعل بين الإحساس الذي يتميز بطابع البساطة، والإدراك الذي يتميز بطابع التعقيد، وهذا مايسمح بالارتقاء من عالم الصور الحسية إلى عالم الصور العقلية. بمعنى أن الإحساس هو الممول الأول للإدراك، فلولا وجود الإحساس لما وجد الإدراك ، كما انه لولا وجود الادراك لكانت احساساتنا مجرد انطباعات عشوائية لا تنتج اي معرفة ، وهذا مايؤكد عليه الفيلسوف رايد:(الإدراك هو الإحساس المصحوب بالانتباه) بحيث ان حضور الشعور هو ما يجمع بين الاليتين ويوجههما معا في تكامل وظيفي نحو الموضوع بالقصدية الشعورية، وهذا ما نادت به الظواهرية .

اخر ما يمكن الوصول اليه، و بناء على ما ذكر في التحليل انفا، يمكن القول ان الحواس التي تنقل إلينا صورة مجردة من أي معنى، ولكن بعد وصولها إلى الذهن عن طريق الأعصاب تتم عملية تأويل جميع الصور، وذلك بتحليلها وفهمها عن طريق العقل، ومن خلال هذا نستنتج بأن هناك مرحلتين مرحلة أولى نعتمد فيها على الحواس للاتصال بالعالم الخارجي ونطلق عليها بالإحساس، ومرحلة ثانية والتي يتم فيها الحكم على الاشياء بترتيب وتنظيم المعطيات وتفسيرها، وهذا هو الادراك، و يتاثر كل منهما بعوامل خارجة عن الذات وجب ان تتوفر في الموضوع المدرك، ما يعني انهما حقيقة عمليتان منفصلتان نظريا ومتصلتان وظيفيا .Philobest✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓✓

Similar Posts

3 Comments

  1. كيف اكتب مقاله بطريقة جدلية

    1. اهلا بك ، ساحاول ان انشر الطريقة المفصلة في القريب العاجل ان شاء الله

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *