[ و هذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع، إنما هو الخطأ يقع من العلماء، إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلفهم الشرع النظر فيها. و أما الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف من الناس، فهو إثم محض، سواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العلمية. فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة، إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورا، كذلك الحاكم على الموجودات، إذا لم توجد فيه شروط الحكم، فليس بمعذور، بل هو إما آثم و إما كافر.
و إذا كان يشترط في الحاكم في الحلال و الحرام، أن تجتمع له أسباب اجتهاد – و هي معرفة الأصول و معرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس – فكان بالحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات، أعني أن يعرف الأوائل العقلية و وجه الاستنباط منها.
و بالجملة، فالخطأ في الشرع على ضربين: إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ، كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في صناعة الطب، و الحاكم الماهر إذا أخطأ في الحكم، و لا يعذر فيه ، من ليس من أهل ذلك الشأن؛ و إما خطأ ليس يعذر فيه، أحد من الناس، بل إن وقع في مبادئ الشريعة، فهو كفر، و إن وقع فيم بعد المبادئ، فهو بدعة: و هذا الخطأ هو الخطأ الذي يكون في الأشياء التي تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها، فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة، ممكنة للجميع، و هذا مثل الإقرار بالله تبارك و تعالى، و بالنبوات و بالسعادة الأخروية و الشقاء الأخروي.
و ذلك، أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الدلائل الثلاثة التي لا يعرى أحد من الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته، أعني الدلائل الخطابية و الجدلية البرهانية. فالجاحد لأمثال هذه الأشياء، إذا كانت أصلا من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه او بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها؛ لأنه إن كان من أهل البرهان، فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان؛ و إن كان من أهل الجدل، فبالجدل؛ و إن كان من أهل الموعظة فبالموعظة. و لذلك، قال عليه السلام: ﴿ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله و يؤمنوا بي ﴾، يريد: بأي طريق اتفق لهم من طرق الإيمان الثلاث. ]
تحليل النص :
طرح المشكلة:
إن البحث في المسائل التي تحتاج إلى تأويل قد تدفع إلى الوقوع في الأخطاء و الغلط، قد يصل هذا الغلط و هذا الخطأ إلى مخالفة الشرع، و ربما هذا ما قاد الغزالي و غيره من الفقهاء إلى تكفير الفلاسفة المشائيين و حاول ابن رشد أن يبرؤهم من تلك الاتهامات و الصفات التي ألصقت بهم و من هذا المنطلق يسعى ابن رشد من خلال النص الذي بين أيدينا إلى أن يبين لنا متى يمكن أن نخطأ؟ و هل مسموح لكل الناس أن يقعوا في الخطأ؟
محاولة حل المشكلة:
موقف الكاتب:
يميز ابن رشد في النص الذي بين أيدينا بين نوعين من الخطأ و هما الخطأ المصفوح عنه في الشرع و الخطأ في درجة الإثم المحض فكيف يمكن للخطأ أن يحمل الصفتين؟ فسر “ابن رشد” ذلك حسب أصحاب هذا الخطأ فهناك العلماء الذين كلفهم الشرع النظر في الأشياء العويصة فقد لا يصل العالم إلى الحقيقة المنشودة فيقع في الخطأ فسيكون هذا العالم حسب “ابن رشد” معذورا على خطئه، بينما يرتكب الإثم بخطئه من يسعى على النظر في الموجودات و هو ليس من أهل النظر أو أهل التأويل، فالحاكم الجاهل بالسنة إذا وقع في حكمه على خطأ فلا يكون معذورا على خطئه ما لم تكون لديه شروط لحكمه، و هذه الشروط تتمثل في القدرة على الاجتهاد من خلال الإلمام بمعرفة الأصول و معرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس.
و بعد أن بين الكاتب متى يعذر المرء على خطئه، يعود لتحديد أنواع الأخطاء في الشرع وهي المعذور عنها و غير المعذور عنها و الشرط الجوهري في كل ذلك العلم بالشيء، و يشبه الكاتب هنا هذا الفرق بين الخطأ المعذور عن غيره بخطأ الطبيب الماهر إذا أخطأ في صناعة الطب فهو معذور لأنه من أهل صناعة الطب لكن دون غيره من الناس غير معذورين فإذا اشتغل شخص قي الطب و هو ليس من أهله و وقع في الخطأ فهو لا يكون معذورا.
لكن حسب “ابن رشد” هناك خطأ لا يمكن أن يعذر فيه لأحد و هو ذلك الخطأ الذي يمس مبادئ الشريعة فذلك يعتبر كفرا و إذا كان دون هذه المبادئ قد يعتبر بدعة، و هذا الخطأ غير المعذور و الذي يكون في الأشياء فإنه يمكن الوصول إلى هذه المعرفة بمختلف طرق الدلائل التي حددها الكاتب في الدلائل الخطابية و الجدلية و البرهانية، على هذا الأساس كان الوصول إلى الحقيقة يمر بالدلائل المذكورة أما بالنسبة لأهل النظر فإنه يعتمدون في الوصول إلى المعرفة على البرهان و إذا كان الإنسان من أهل الجدل وجب التعامل معه بالجدل، أما من هم من أهل الموعظة، فلا تنفع معهم إلا الموعظة، فلكل حسب طبيعته في التصديق فتصديق الفلاسفة ليس مثل تصديق المتكلمين، كذلك بالنسبة لأهل الجدل من علماء الكلام.
حجة الكاتب:
أكد الكاتب أن أخطاء أهل النظر في الموجودات معذورة بينما أخطاء دونهم غير معذورة و ذلك لأن أهل النظر تتوفر فيهم الشروط و الاستعداد للنظر و التأويل، بينما غيرهم يقوم بنشاطه عن جهل، فإذا كان عامة الناس يكتفون بالإيمان بخصوص المسائل التي تحتاج إلى تأويل، فإن التأويل قد يوقع فيهم في الخطأ و يؤول بهم الأمر إلى الكفر بينما أهل العلم أو النظر فلا يأخذون المسائل بظاهرها و إنما بالبرهان، فالعامة يكتفي في تصديقها بالإيمان أما التصديق عند أهل النظر فيكون بالبرهان من ذلك مسألة الاستواء فتأويل ذلك عند أهل النظر مقبول و خطأهم فيه معذور بينما الجاهل غير معذور و خطأه هو كفر.
مناقشة الكاتب:
من خلال هذا التصور الذي أتى به “ابن رشد” في التمييز بين تأويل العالم و الجاهل و كيف أن أخطاء العلماء هم معذورون فيها و أخطاء الجهالة أو عامة الناس من غير أهل النظر غير معذورين، فإنه يدفعنا بذلك إلى رفع أي انحراف أو تكفير للفلاسفة على عكس ما ذهب إليه بعض الفقهاء بمن فيهم “الغزالي” عندما كفر المشائيين، و من هذا المنطلق يبيح “ابن رشد” حرية الرأي و التفكير بدون قيد لكن جعل الشرط في ذلك أن يكون صاحب الرأي ممن تتوفر فيهم شروط التأويل أو العلم على أن لا يزيغ هؤلاء على المبادئ أو البديهيات مثل الإقرار بالله و بالنبوات و بالسعادة الأخروية و الشقاء الأخروي. و من خلال هذا الاعتقاد الرشدي استرجعت الفلسفة هيبتها و حريتها.