[ فإن قال قائل: إن في الشرع أشياء قد أجمع المسلمون على حملها على ظواهرها، و أشياء على تأويلها، و أشياء اختلفوا فيها، فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره، أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟
قلنا: أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني فلم يصح و أما إن كان الإجماع فيها ظنيا فقد يصح. و لذلك، قال أبو حامد و أبو المعالي و غيرهما من أئمة النظر، أنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء.
و قد يدلك على أن الإجماع لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني، كما يمكن أن يتقرر في العمليات: أنه ليس يمكن أن يتقرر الإجماع في مسألة ما، في عصر ما، إلا بأن يكون ذلك العصر عندنا محصورا، و أن يكون جميع العلماء الموجودين في ذلك العصر، معلومين عندنا: أعني معلوما أشخاصهم و مبلغ عددهم، و أن ينقل إلينا في المسألة، مذهب كل واحد منهم نقل تواتر، و يكون مع هذا كله، قد صح عندنا أن العلماء الموجودين في ذلك الزمان، متفقون على أنه ليس في الشرع ظاهر أو باطن، و أن العلم بكل مسألة، يجب أن يكتم عن أحد، و أن الناس طريقهم واحد في علم الشريعة. ].
تحليل النص :
طرح المشكلة:
ما هو معروف في النصوص الشرعية أن منها ما يؤخذ بظاهرها ومنها ما يؤخذ بباطنها فيتم تأويله و المعروف عن الفلسفة معرفة برهانية و برهانها قد يأتي مخالفة ما تم الإجماع على ظاهره تأويله، فهل يجوز أن يكون هذا الخلاف بين ما وصل إليه البرهان الفلسفي و الإجماع الفقهي، لقد كان ذلك مثار جدل و اختلف العلماء و الفقهاء في الفصل بين الفلسفة و الشريعة في هذا الجانب و تحجج بعض الفقهاء بهذا الخلاف لإنكار الفلسفة و تأكيد مخالفتها للشريعة بينما يرى ابن رشد أن هذا التضارب بين الفلسفة و ما أجمع عليه العلماء في الشريعة جائز، فكيف يجوز للفلسفة أن تتجاوز الإجماع الفقهي؟
محاولة حل المشكلة:
موقف الكاتب:
لقد أجاز ابن رشد للفلاسفة أن يخالفوا ما أجمع عليه علماء الشريعة في تأويلهم للنصوص الشرعية، و قبل أن يبرر ابن رشد ذلك, بدأ نصه بتحديد طبيعة الشرع و إجماع المسلمين عليه , فبين أن هناك ما هو ظاهر في نص الشريعة فيما هناك ما تم الإجماع عليه عن طريق التأويل.
ثم ينتقل الكاتب إلى تحديد نوعين من الإجماع , و هما الاجماع عن طريق اليقين و إجماع عن طريق الظن , و في هذا أجاز ابن رشد أن يتم خرق الإجماع في المسائل الظنية أي التي تحمل تأويلا, و أن التأويل في أصله لا يجوز الإجماع عليه , ثم اشترط ابن رشد في الإجماع أن يكون في مسألة ما و في عصر ما , و أن يكون عدد العلماء الذين يقع بينهم الإجماع معروفا و غيرها من الشروط التي يصعب تحقيقها.
و من هذا المنطلق ما دام لا يمكن أن يكون هناك إجماع في المسائل التي تتطلب التأويل, فيجوز أن يخترق التفكير البرهاني في الموجودات الإجماع , فالتأويل في الأصل هو مجرد اجتهاد، بل وقوع الفقهاء في مشكلة ما يمكن أن يؤول و ما لا يمكن, و حتى هذا الخلاف اقتضى التأويل و من هذا المنطلق يصبح خرق الإجماع في التأويل جائزا شرعا حسب ابن رشد.
حجة الكاتب:
لقد عمد ابن رشد إلى تبرير إمكانية خرق التفكير البرهاني لإجماع التأويل أي يمكن أن تأتي الفلسفة بأفكار تناقض ما توصل إليه الفقهاء بعد اجتهادهم، و ذلك من خلال كون التأويل لا يمكن أن يكون عليه إجماع بل قد يقع الإجماع على ما هو ظاهر في الشرع. أما ما هو باطن فإن الخلاف فيه يبقى قائما بين الفقهاء و يصبح ما وصلوا إليه مجرد اجتهاد , مما يجيز أن يتوصل التفكير البرهاني إلى مخالفة ما تم تأويله من طرف الفقهاء.
مناقشة الكاتب:
تمكن الكاتب من إبراز ظاهرة مهمة في الصراع بين الفلسفة و الدين خاصة في ذلك الهجوم الذي قاده الفقهاء ضد الفلسفة بحكم أن الفلاسفة خالفوا الشريعة من خلال تناقض المعرفة البرهانية مع الأحكام التي تم استنباطها بعد تأويل النص القرآن أو ما تم الإجماع عليه، فكشف ابن رشد في هذا الأساس أن إجماع العلماء يجب أن يكون فيما هو يقيني أي قطعي و ليس ظنيا أي ليس فيما هو قابل للتأويل، أي أنه إذا وقع تأويل لنص شرعي فذلك يستبعد فكرة وجود إجماع لأن معنى التأويل هو الاجتهاد في فهم النص.