النص
[ و ليس يلزم من أنه إن غوي غاو بأن النظر فيها و زل زال – إما من قبل نقص فطرته، و إما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلما يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو أكثر من واحد منها – أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها. فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات، و ليس يجب فيما كان نافعا بطباعه و ذاته، أن يترك لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض، و لذلك، قال عليه السلام – للذي أمره بسقي العسل أخاه لإسهال كان به، فتزايد الإسهال به لما سقاه العسل، و شكا ذلك إليه – : ﴿ صدق الله و كذب بطن أخيك﴾ ، بل نقول: إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوما من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوما شرقوا به، فماتوا. فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، و عن العطش أمر ذاتي و ضروري. ].
تحليل النص :
طرح المشكلة:
إذا كان ابن رشد يرى من خلال النص السابق ( اضغط هنا للاطلاع على النص السابق ) أنه يستحيل أن تجتمع لدى الفرد الواحد كمال المعرفة و أنه لابد من الاستعانة بالغير و الاطلاع على كتب الأقدمين لمعرفة خبرتهم و نظرتهم لهذه المسألة أو تلك، إلا أن الذين يهيمون في التفكير فيما فكر فيه أهل الفلسفة أو من راح للنظر في كتب الأقدمين قد لا يفهم مضمونها و غرضها فيقع في الغي أو يبتعد عن الحق و تكثر أخطاؤه فيما نظر فيه أو فكر فيه، فهل أخطاء هؤلاء نحملها على الحكمة و الفلسفة أو في كتب القدماء فنذمها و ننهى الناس على النظر فيها و نقول إن ما فيه هو غلط و ضلال؟
محاولة حل المشكلة:
موقف الكاتب:
يرى ابن رشد أنه ما دام النظر في كتب الأقدمين قد ظهر على أنها واجبة شرعا إذا كان مقصدها هو ما حث عليه الشرع، فإنه إذا أخطأ مخطئ في فهمها و زل عن الحق فيها فلا نحمل ذلك على كتب الأقدمين و ننهى عن النظر فيها لمن هو أهل للنظر فيها و أن ما لحق من أضرار في كتب الأقدمين بسبب هؤلاء الذين وقعوا في الزلل فإن هذا الضرر حسب ابن رشد هو ضرر عرضي أي ليس جوهري و ليس من طبيعة هذه الكتب أو النظر فيها.
و نلاحظ أن الكاتب في بداية هذا النص الذي بين أيدينا أظهر إمكانية الوقوع في الخطأ من ينظر في كتب الأقدمين و ذلك نتيجة نقص في فطرته أو سوء تفكيره أي أنه لا يحمل تلك الصفات التي يتوجب أن تكون لأهل النظر و التي تتمثل عنده في ذكاء الفطرة و العدالة الشرعية و الفضيلة الخلقية فهؤلاء الذين يقعون في مثل هذه الأخطاء بسبب الصفات المذكورة لا تلزم منع النظر في كتب الأقدمين لمن يحملون صفات أهل النظر و أن الأضرار التي تلحق بالحكمة أو بالفلسفة أو النظر في كتب الأقدمين تعتبر أضرارا عرضية و ليست ذاتية.
و لكي يوضح الكاتب هذه الصورة عن الضرر العرضي و الضرر الذاتي بين أن هناك أشياء من طبيعتها أنها نافعة لكن قد يطرأ عليها طارئ أن تنتج عنها مضرة عرضية فلا يجوز تركها بسبب هذه المضرة و يروي لنا ابن رشد في هذا الصدد مثالا من سيرة النبي صلى الله عليه و سلم المتعلقة بفائدة العسل و كيف أن أحدهم اشتكى للنبي بأن العسل أضر ببطن أخيه و تسبب له بالإسهال و كان الله قد ذكر فوائد للعسل فرد النبي صلى الله عليه و سلم: ” صدق الله و كذب بطن أخيك “.
و يضرب ابن رشد مثالا آخر يشبه فيه من منع النظر في كتب الحكمة لمضرة أنهم مثل من منع شرب الماء البارد لأن قوما شرقوا به فماتوا.
حجة الكاتب:
نلاحظ أن ابن رشد من خلال هذا النص حرص على عدم إبطال النظر في كتب الحكمة و الفلسفة بسبب قوم لم يحسنوا النظر فيها لتقصير فيهم، أو ضعف نظرهم، و أن الأضرار التي تلحق بكتب الأقدمين من هؤلاء تعتبر أضرارا عرضية و ليست أضرار ذاتية، قد استدل الكاتب في ذلك بجملة من التبريرات المنطقية و الواقعية و حتى النقلية، فتظهر المنطقية في ذلك التمييز بين أهل النظر و غير أهل النظر، و أن من يتوجب عليه النظر في كتب الحكمة هم أفراد تجتمع فيهم صفات معينة متمثلة في القدرة على النظر من جهة و العدالة الشرعية و الأخلاق، نلاحظ أيضا الدليل الواقعي من خلال تلك النماذج المستمدة من الواقع عن المنافع التي قد تضر عرضا مثل الماء الذي تسبب شربه في موت شخص ما فلا نحكم على الماء بأن من طبيعته أنه من يشربه سيموت، و استشهد أيضا الكاتب بنص نقلي متمثل في الحديث النبوي المتعلق بمنفعة العسل، يظهر أن هذه التبريرات مترابطة و قوية بالنظر لما ذهب إليه الغزالي من خلال حظر التفكير في كتب القدماء.
مناقشة الكاتب:
يظهر أن النص الذي بين أيدينا يعكس الواقع الذي كان موجودا في عصر ابن رشد و كذا الغزالي حيث اختلط الحابل بالنابل، فكل من هب و دب اعتبر نفسه حكيما و أنه قادر على قراءة كتب الحكمة للأقدمين مثل ” أفلاطون” و “أرسطو”، لكن ترتب عن ذلك تشويش و طمس للفلسفة و النظر فيها، مما دفع بالكثير إلى تحميل الفلسفة تلك الانحرافات عن الشريعة و كان سلاحهم في الدفاع عن الشريعة هو تحريم النظر في كتب الأقدمين و ذكر ما ذكروه، أضحت الفلسفة حينها مستهدفة، كل من سعى إلى النظر في تلك الكتب أضحى مارقا عن الإسلام و هنا ظهر ذلك الصراع المشبوه بين الدين و الفلسفة و ظهر أمر كأنهما متناقضان، فجاء ابن رشد لتصحيح الوضع، و جعل غلط بعضهم و أخطاءهم ليس راجعة لكتب الأقدمين و إنما لنقص فكرهم و قلة نظرهم و أنهم لا يحملون صفات أهل النظر الذين يتوجب عليهم شرعا النظر في كتب الأقدمين.