**** ما قيمة الفرضية في البحث العلمي ؟ .

يحتل المنهج التجريبي مكانة مرموقة في ميدان العلوم ، حتى سمي عصب الاستقراء ، وهو يتضمن ثلاث خطوات تمثلها الملاحظة، الفرضية والتجربة . وتعتبر الفرضية خطوة عقلية محضة دورها تفسير الظاهرة تفسيرا مؤقتا ، وهذا ما جعل قيمتها محل خلاف بين طرف يدعو الى التخلي عنها واقصائها ، وطرف يصر على كونها ذات اهمية كبرى ولا غنى عنها . فطرح من هذا الجدل اشكالا يقول : – هل يمكن الاستغناء عن الفرضية في الدراسة التجريبية ؟

الفرضية خطوة غير ضرورية ، بل ويجب الاستغناء عنها واقصائها بالكلية ، وهذا راي العديد من العلماء والفلاسفة المنتمين الى النزعة التجريبية ، على راسهم ماچندي وستيوارت ميل . فاصحاب هذا التوجه لا يقبلون اي تدخل للحكم المسبق في تحديد مسار البحث التجريبي وبما في ذلك الافتراضات .

من بين الادلة والحجج التي ساقوها لتدعيم موقفهم ، أن الفرض مشروع قانون أو تفسير مؤقت نخاطر به في ميدان التجربة، ولهذا قال ماجندي لتلميذه كلود برنارد ” أترك عباءتك وخيالك عند باب المخبر ” ، اذ يكفي أن نترك التجربة تحل بنفسها في أذهاننا حتى ندرك حقيقة الظاهرة ولا نحتاج في هذا حكما مسبقا . ويقول جون,س,ميل “إن الطبيعة كتاب مفتوح ولإدراك القوانين التي تتحكم فيها ما عليك إلا أن تطلق العنان لحواسك أما عقلك فلا ” .اضافة الى أن الخيال يؤثر على الموضوعية، وإذا كان الفرض من طبيعة ذاتية فإنه يصبح عائقا في البحث العلمي، واستخدام الفرض مع التأكد من صحته والاعتماد على التجربة عن الاختيار يعد مضيعة للوقت من جهة وإفراطا في الجهد من جهة أخرى، وبدل ذلك من الممكن الانتقال من الملاحظة إلى التجربة مباشرة ، بمعنى أن الملاحظة هي التي تقود الباحث إلى الحل وليست الفكرة هي ما يصنعه .

كما ان الطرق الاستقرائية التي صاغها ستيوارت ميل تمكن الباحث من فهم الظاهرة والوقوف على عللها دون الخروج عن الطابع الحسي للظاهرة، فللتأكد من وجود السببية بين ظاهرتين نحاول اكتشاف نوع العلاقة العلية بينهما من خلال استخدام طريقة التلازم في الحضور اولا ، ومضمونها انه إذا تلازمت حالتان أو اكثر للظاهرة المراد دراستها في طرف واحد فقط فهذا الطرف هو العلة في حدوث الظاهرة أي أن العلة والمعلول متلازمان في الحضور بحيث إذا حضرت العلة حضر معها المعلول والعكس، وكمثال توضيحي نذكر ملاحظة “ولز” لظاهرة الضباب ، إن الضباب يتكاثف على زجاج النوافذ أثناء الشتاء و بخار الماء يتكاثف أيضا على جدران الكوب إن كان فيه ماء مثلج أو على سطح المرآة إذا نفخ عليها , من هذا انتهى (ولز) باستخدام الملاحظة فقط إلى استخلاص حقيقة مفادها أن جميع تلك الحالات تتفق في ظرف واحد مشترك هو أن بخار الماء الموجود في الهواء يتكاثف على سطوح الأجسام الصلبة متى كانت درجة حرارتها اقل من درجة حرارة الجو المحيط بها، وهذا الظرف المشترك الوحيد هو سبب وجود الظاهرة .وثانيا طريقة التلازم في الغياب ومفادها أن غياب العلة يستتبع غياب المعلول معها، وابلغ مثال هو تجربة باسكال، اذ قام بتفريغ الضغط الجوي من وعاء الزئبق والأنبوب الممتد فيه، ووصل إلى أن الزئبق لم يرتفع في الأنبوب، فغياب ضغط الهواء يستتبع بغياب ارتفاع الزئبق في الأنبوب .ثالثا طريقة التغير النسبي، وتعني أن كل تغير يطرأ على الظروف (السببية) يقتضي تغيرا مقابلا في الظاهرة، وهذا ما قام به باستور للتحقق من علاقة ظاهرة التعفن بما في الهواء من جراثيم، فقد اخذ ثلاث مجموعات من أنابيب الاختبار عدد كل مجموعة عشرون أنبوبا وملأها بسائل معين، ثم عقمها ووضعها مفتوحة في أماكن تختلف درجة نقاء الهواء فيها، وبعد مدة تبين له أن نسبة التعفن في المجموعة التي وضعها في الريف كانت ثمانية من عشرين ونسبة التعفن في المجموعة الثانية التي وضعت في جهة اكثر من الأولى كانت خمسة أنابيب من عشرين بينما كانت هذه النسبة واحدا من عشرين فتحها في منطقة يستمر فيها الجليد طوال العام , واستخلص منه أن نسبة التعفن تزيد كلما كان الهواء اكثر تعرضا للتلوث بالجراثيم .-* طريقة البواقي وملخصها أن الباقي من العلل للباقي من المعلولات مثلا إذا كان لدينا مجموعة من المفاتيح (أ), (ب), (ج) ومجموعة ابواب (1) و (2) و (3 ) وعرفنا أن المفتاح (أ) يفتح الباب (1)المفتاح (ب) يفتح الباب (2)فاننا سنعرف حينها ان المفتاح المتبقي وهو (ج) يفتح الباب المتبقي وهو (3)

فعلا ، ان قواعد الاستقراء قد تغنينا في بعض الحالات عن الفروض، فإنه لاشك اذا التزمنا بها وقفنا على فهم تجريبي للظاهرة دون تكلف حدود هذه الظاهرة في طبيعتها الحسية. ولكن أليس في هذا الموقف نوع من المجازفة ؟ ثم اليس العقل هو ما نكشف به العلاقة السببية بين الظاهرتين في القاعدة الاولى والرابعة ؟ ومالذي يجعلنا نتيقن أن العامل الذي يلازم الظاهرة حضورا وغيابا هو المسؤول عن حدوثها ؟ فقد يحضر السبب ولا تحضر الظاهرة وهذا محتمل جدا . كما ان قاعدة البواقي لا تكون مجدية الا حينما يكون العلم متشبعا بالقوانين ومحيطا بالعلاقات بين الظوار ، ولهذا قال “غاستون باشلار” (إن التجريب العلمي الصحيح يتنافى وهذه الطرائق التي تعود الى عمر ما قبل العلم ) .

على النقيض مما سبق ، يرى عدة فلاسفة وعلماء باستحالة الاستغناء عن الفرضية ، بل جعلوها ركيزة اساسية قد تكون في بعض الحالات اكثر قيمة من التجربة في حد ذاتها ، ويعتبر كلود برنارد من اكثر المتعصبين لهذا الراي اضافة الى بوانكاري.

ولعل من ابرز حججهم ان الكشف العلمي يرجع إلى تأثير العقل اكثر مما يرجع إلى تأثير الأشياء، فالفرض في المنهج التجريبي يحدد الكيفية التي سيتم بها الإجراء التجريبي لأن التجريب العلمي ينطلق أساسا من التفسير، يقول ويوال (إن الحوادث تتقدم إلى الفكر بدون رابطة إلى أن يجيء الفكر المبدع) ويقول بوانكاري ( إن العلم يتألف من الحوادث ولكن الحوادث وحدها لا تكتفي ) فكومة الحجارة لا تبني بيتا الا اذا رتبها صانع عاقل .ثم أن الملاحظة الخالصة والتجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم ، ولهذا تجد الناس كلهم يشتركون في الملاحظة ولكنهم لا يشتركون في التجربة العلمية ، وهذا لغياب الفكرة العلمية التي تربط بين المرحلتين لتنتج بحثا حقيقيا وهادفا ، ألم يلاحظ أحد الفلكيين مرة الكوكب “نبتون ” قبل “لوفيربي” ؟ ولكنه لم يصل إلى ما وصل إليه “لوفيربي” لأن ملاحظته العابرة لم تسبقها فكرة أو فرض . ويقول كلود برنارد “الفكرة مبدأ كل برهنة وكل اختراع واليها ترجع كل مبادرة ” أي أن دور الفرض يكمن في تخيلي ما لا يظهر بشكل محسوس، فنحن مثلا لا ندرك دوران الأرض إدراكا مباشرا ولكننا نتصور حدوثه، لقد تنبه إلى هذه الحقيقة ابن الهيثم في مطلع القرن 11م اذ قال “إنني لا اصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية” .اضافة الى هذا ، تعتبر القفزة التي حققتها علوم الطبيعة في القرن الحالي افضل دليل على قيمة الفرضية ، فقد اصبحت تقوم على افتراضات محضة تصاغ بشكل رياضي نسقي ، ليتم التاكد منها تجريبيا بعد سنين طويلة ، فاينشتاين مثلا لم يتم التحقق من صحة نظرياته الا في النسبية الا بعد وفاته ، بل ان معظم قوانين النسبية التي صاغها نظريا فقط لم تكن مثبتة تجريبيا الا بعد مائة سنة من وفاته ، ففي هته الحالة سبقت الفروض الشواهد وكانت صادقة بتمامها .

في الواقع لا يمكن الانتقاص من قيمة الفرض، وهو ضروري بلا شك مادام النشاط العلمي لا يقوم بدون فكرة معقولة ، لكن الفرض قد يخضع لذاتية نابعة عن خيال العالم، ولذلك فهو قد يوقعنا في الخطأ كما أنه من الممكن أن يبعد الباحث عن التفسير الحقيقي للظاهرة المدروسة . كما أن الفرض لا يكون بالضرورة سابقا للتجربة في كل مرة .

إن الطرق الاستقرائية تفيد العالم وتجعله يقف على فهم الظاهرة ومعرفة عللها دون تجاوز الطابع الحسي لها، ولكن هذه الطرق لا يمكنها أن تحل محل الفرض العلمي بالكلية ، فبدون عقل مفكر يجمع بين الحوادث لا يمكن تحصيل معرفة علمية دقيقة ، بشرط أن يستوفي الفرض معايير العلمية الصارمة حتى لا يصبح مجرد تخيلات تدفعها الاهواء ، وهي أن تكون الفرضية منبثقة من الملاحظة ، وان لا تناقض حقائق علمية ثابتة، وان تفسر جميع جوانب الحوادث المشاهدة ، كما يجب ان تكون منطقية تفسر الظاهرة تفسيرا سببيا ، وتكون قابلة للتحقق منها تحريبيا .

اخيرا وعلى ضوء ما ذكرناه انفا ، نستنتج انه لا يمكن إنكار دور الفرضية الضروري في الدراسة العلمية ، فهي فعل عفوي يندفع إليه العقل الإنساني ، واما مخاطرها فيرجع امر التعامل معها الى نزاهة العالم من جهة ، والى صرامة الشروط الواجب توفرها للاخذ بها ، فتوليد الفكرة لا يمكن تجنبه ، اما التحقق منها فهو خاضع لقواعد دقيقة لا يستطيع المجرب ان يحيد عنها .

اضغط هنا لمشاهدة مقالة اهمية الفلسفة

مقالة الرياضيات

مقالة الحتمية

مقالة اليقين في نتائج العلوم التجريبية

مقالة الشعور بالانا و الشعور بالغير تحليل

مقالية الحرية و المسؤولية

~~~~~~~~~~خروبي بلقاسم philobest ~~~~~~~~

Similar Posts

2 Comments

  1. مجهول says:

    السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبراكاته اريد ن اتاكدا فقط من تجربة باسكال للضغط الجوي لاني لم افهمها جيدا اضافة الى اني و بعدما بحثت عنها وجدت انه كلما زاد استفاع الزئبق قل الضغط الجوي او بصيغة اخر كلما قل الضغط الجوي زاد ارتفاع الزئبق في الانبوب
    وشكرا

  2. بلحاج هبة الله says:

    مقالات قمة يعطييك الف عافية على
    المجهودات الجبارة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *