مقالة الحتمية واللاحتمية . الطريقة: جدلية.

السؤال: هل الطبيعة تخضع لمبدأ الحتمية خضوعا كليا و مطلقا ؟

هل ينبغي أن تكون الحتمية المطلقة أساسا للقوانين التي يتوصل إليها العلم ؟

انقر هنا وشاهد ايضا مقالة اليقين العلمي

مقالة الحتمية واللاحتمية
بندول نيوتن الذي يوضح بان لكل فعل ردة فعل مساوية في القوة ومعاكسة في الاتجاه. وهذا القانون يدعم مبدا الحتمية بشدة.

طرح المشكلة ( مقدمة )

لطالما كانت غاية العلم الوصول إلى تفسير دقيق لظواهر الطبيعة ؛ بمعرفة الأسباب القريبة التي تتحكم فيها، ايمانا من الباحثين بان الشروط اذا تكررت ستعطي نفس النتائج ، و هذا مضمون مبدء الحتمية ؛ الذي كان يعتبر ركيزة اساسية يقوم عليها التفكير العلمي لزمن طويل ، ولكنه اصبح محل خلاف بين الفلاسفة والعلماء مطلع القرن 19 الى القرن 20 ، فقد كان نظاما ثابتا يحكم كل الظواهر عند الاوائل، بينما انكره بعض العلماء لاحقا و استبدلوه بمبدء مناقض هو اللاحتمية . ومن منطلق هذا الخلاف نتساءل : هل يمكن الاعتقاد بأن الحوادث الطبيعية تجري حسب نظام دائم ، وهل هي تخضع لمبدء الحتمية خضوعا كليا ؟

محاولة حل المشكلة ( العرض )

الموقف الاول

الحتمية مبدأ مطلق عند علماء الفيزياء الحديثة. فجميع ظواهر الكون تخضع لنظام صارم اذا توفرت فيه نفس الشروط ادت الى نفس النتائج دائما وبالضرورة ، وهذا ما يجعل التنبؤ بالظواهر ممكنا . اذ يؤيد هذا الراي كل من نيوتن ، كلود برنار ، لابلاس ، غوبلو و بوانكاريه.

ومن حججهم ان الطبيعة تخضع لنظام ثابت لا يقبل الشك أو الاحتمال، لأنها غير مضطربة ولا عشوائية، وبالتالي فمبدأ الحتمية هو أساس بناء أي قانون علمي ورفضه هو إلغاء للعقل وللعلم معا . و ما يؤكد صحة هذا الطرح ، هو صدقه على مستوى كل ظواهر الكون الكبرى ، من نزول المطر الى نمو النبات ، ومن هبوب الرياح الى غيرها من الظواهر المختلفة التي نعاينها يوميا ، فكل ظاهرة تعتبر نتيجة لشروط معينة ، وهي بدورها شرط لظاهرة اخرى ، لهذا يقول لابلاس :” يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة ، وسببا في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة لحالته السابقة ” .

ثم ان غاية العلم وجوهره قائم على الايمان بالحتمية ، اذ يعمل على تفسير الظواهر سببيا وصياغة قوانينها وتحقيق التنبؤ ، فلو كنا لا نعتقد بالحتمية اعتقادا جازما فلماذا نسعى الى تفسير الظواهر سببيا ؟ وهل كان سيقوم للعلم قائمة اصلا لو ان الانسان لا يؤمن بالحتمية ؟

ان مجرد النظر في نظام الكون وكيفية تتابع ظواهره في ترتيب وتسلسل ثابت لهو دليل كاف على صدق مبدء الحتمية, ويقول بوانكاريه في هذا ” ان العلم حتمي بالبداهة ” فلا يمكن للعقل ان يستسيغ الصدفة والعشوائية في ظاهرة مرتبة ومنظمة باحكام وصرامة ، ثم ياتي بعد ذلك ليحاول فهم الية حدوثها دون الاعتقاد مسبقا بخضوعها للحتمية .

وقد أشار نيوتن في القاعدة الثانية من أسس تقدم البحث العلمي و الفلسفي : ” يجب أن نعين قدر المستطاع لنفس الآثار الطبيعية نفس العلل ” كما يذهب غوبلو إلى القول بأن العالم متسق ، تجري حوادثه على نظام ثابت وأن نظام العالم كلي وعام فلا يشذ عنه في المكان حادث أو ظاهرة, فالقانون العلمي هو إذن العلاقة الضرورية بين الظواهر الطبيعية. ولهذا نجد العلماء يسعون سعيا حثيثا الى صياغة قانون كلي يفسر ويختصر كل قوانين الكون ، تحت مسمى ” نظرية كل شيء ” التي كانت حلم اينشتاين الاكبر ولا تزال حلم العلماء من بعده .

ان الايمان بمصداقية العلم ودقته يقتضي الاقرار بان الحتمية في الطبيعة مبدا مطلق, فالهدف الاول من العلم والبحوث التجريبية هو ايجاد العلاقات الضرورية بين الاسباب والنتائج, لكي نتمكن باستخدامها من التنبؤ بظواهر الطبيعة ونتكيف معها ونسيطر عليها. بل ان العلم في حد ذاته يمكن وصفه بانه مجموعة القواعد والقوانين التي تفسر الية عمل الظاهرة الطبيعية. ومن هذا المنظور يمكن ان نقول بان مبدا الحتمية هو ما يساعدنا اساسا في فهم الطبيعة وتفسيرها علميا.

نقد ومناقشة

مبدأ الحتمية نجح نجاحا باهرا ، وحقق العلم به انتصارات ساحقة على الطبيعة وتمكن من السيطرة عليها ، لكن مع اقتراب القرن 19 من نهايته اصطدم التفسير الميكانيكي ببعض الصعوبات التي لم يتمكن من إيجاد حل لها, مثل عدم القدرة على تفسير الظواهر وقياسها منفصلة عن بعضها ، و زادت المشكلة تعقيدا حين ظهرت نظرية الكوانتا ، و هو ما سمي ازمة الحتمية .

الموقف الثاني

يرى علماء الفيزياء المعاصرة و فلاسفة القرن العشرين وعلى راسهم بلانك ، ادينجتون ، ديراك و هيزنبرغ ، أن مبدأ الحتمية غير مطلق فهو لا يسود جميع الظواهر الطبيعية ، وانما يحكم مجالا ضيقا جدا من الطبيعة .

ومن بين الادلة التي دعم بها هؤلاء موقفهم, ما وصلت اليه الأبحاث التي قام بها علماء الفيزياء و الكيمياء على الاجسام الدقيقة ، من نتائج غيرت الاعتقاد بالحتمية تغييرا جذريا . حيث ظهر ما يسمى باللاحتمية أو حساب الاحتمال وبذلك ظهر ما يسمى بأزمة الفيزياء المعاصرة, و المقصود بهذه الأزمة ، أن العلماء الذين درسوا مجال العالم الأصغر (أي الظواهر المتناهية في الصغر) ، توصلوا إلى أن هذه الظواهر تخضع لللاحتمية وليس للحتمية .

ورأى كل من ادينجتون و ديراك أن الدفاع عن مبدأ الحتمية بات مستحيلا ، وكلاهما يرى أن العالم المتناهي في الصغر او ما يسمى الميكروفيزياء خاضع لمبدأ الإمكان, بمعنى أنه لا يمكن التنبؤ بهذه الظواهر، ونفس الشيء بالنسبة لبعض ظواهر العالم الأكبر (الماكروفيزياء ) مثل الزلازل .

وقد توصل هايزنبرغ عام 1926 إلى أن قياس حركة الإلكترون أمر صعب للغاية ، واكتفى فقط بحساب احتمالات الخطأ المرتكب في التوقع أو ما يسمى بعلائق الارتياب , حيث وضع القوانين التالية : كلما دق قياس موقع الجسم غيرت هذه الدقة كمية حركته . كلما دق قياس حركته التبس موقعه . يمتنع أن يقاس موقع الجسم وكمية حركته معا قياسا دقيقا .

أي انه يصعب معرفة موقع الالكترون وسرعته في زمن لاحق .وهذا لان العملية تقتضي تسليط فوتون الضوء على الجسيم لمعرفة مكانه ، وهو ما يؤثر عليه بصفة مباشرة . وهي تجربة بينت ان المفهوم التقليدي للحتمية غير دقيق ، وان القول بمطلقيتها بات مستحيلا ، فتحولت من مبدء علمي الى افتراض .

نقد ومناقشة

لا يمكن انكار ما توصلت اليه الفيزياء المعاصرة من اكتشافات ، وينبغي فعلا الالتفات الى الحقيقة التي زعزعت العلم الوثوقي، لكن رغم أن النتائج و البحوث العلمية أثبتت أن عالم الميكروفيزياء يخضع لللاحتمية وحساب الاحتمال, فإن ذلك مرتبط بمستوى التقنية المستعملة لحد الآن ، اذ ان التقنية التي تستخدم اليوم تعتبر التقنية الوحيدة الممكنة ، و قد تتطور مستقبلا او يبدع العلماء تقنية جديدة تماما تسهل من مهمة تفسير الية عمل الاجسام الصغرى , فيكون عندئذ التاكيد على صدق مبدء الحتمية او الغاؤه ممكنا .

التركيب

من خلال عرض الرايين السابقين ، يمكن القول أن الحتمية مبدأ اثبت صدقه الى حد كبير في العلم ، واصطدامه باكتشافات الفيزياء المعاصرة جعله في حكم النسبية من جهة الظواهر الصغرى ، ولكنه غير ذلك يبقى قاعدة أساسية للعلم ، فقد طبق الاحتمال في العلوم الطبيعية و البيولوجية، وتمكن العلماء من ضبط ظواهر متناهية في الصغر، واستخرجوا قوانين تفسر ما يدور على المستوى الذري و مجال الوراثة ، و هذا ما يثبت الحتمية انتهاء من حيث قام على نفيها ابتداء .

حل المشكلة ( خاتمة )

اخيرا ؛ وعلى ضوء ما ذكرناه انفا ، نستنتج ان القول بالحتمية المطلقة بات من الماضي وهذه طبيعة العلم واساس تطوره القائم على القطيعة الابستيمولوجية ، ومن ناحية اخرى فان القول باللاحتمية هو امر يحتاج مزيدا من الاثباتات و البحوث المستمرة . لكن من جهة المبدأ العام, فإنه يجب علينا أن نعتبر كل نشاط علمي هو سعي نحو الحتمية، ويعتبر غاستون باشلار أن مبدأ اللاتعيين في الفيزياء المجهرية ليس نفيا للحتمية ، بمعنى ان مبدأ الحتمية يبقى قائما مادام له مجال يحكمه .

كانت هذه مقالة الحتمية واللاحتمية بالطريقة الجدلية, وسننشر لكم ايضا المقالة بطريقة الاستقصاء بالوضع اضافة الى مخطط وملخص كامل قريبا ان شاء الله.

Similar Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *